بقلم: د. قالط العنزي
يعدُّ الشيخ الأديب عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- أحد الرواد الأوائل في الصحافة والإعلام والأدب في المملكة العربية السعودية، وهو سادن الأساطير الشعبية في الجزيرة العربية، وجامع الموروث الشعبي السعودي؛ فكتابه «أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب» مظهر من مظاهر التواصل الاجتماعي والثقافي، وضرب من ضروب التفاعل القولي بين المتخاطبين المنتمين إلى لغة واحدة، وشكل من أشكال توثيق الذاكرة الثقافية وما فيها من قيم وعادات وأعراف تواصلية.
فالكتابة عن الأساطير الشعبية تعكس الحس الاجتماعي للمؤلف، وطريقته الفنية في تأثيث الفضاء الثقافي، وتصوير المعيش اليومي لسكان الجزيرة العربية، فهذه الأساطير أنساق تواصلية حاملة لآثار التخاطب القولي بين المؤلف ومتلقي خطابه الشعبي. وقد أكدّ الأديب عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- على أهمية الموروث الشعبي، فهو يراه أصدق من التاريخ المكتوب، وأدق في رسم الحياة الاجتماعية والثقافية، وأقدر على تكوين صورة وافية لتجارب الأمم، وطرائقها في التفكير والعيش المشترك، وعليه، فكتاب «أساطير شعبية» مسلك من مسالك التواصل القولي التفاعلي بين المؤلف والمخاطَب، ووسيلة من وسائل الاحتجاج والإقناع في الخطاب الأدبي الشعبي، وضرب من ضروب الذاتية في التخاطب اللساني، وهذا ما ظهر جلياً في المقدمات التي كتبها عبد الكريم الجهيمان لمصنفه الرائد (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب)، يقول في الجزء الأول من كتابه السابق: «وهذه هي المجموعة الأولى من هذه الأساطير الشعبية، صغتها بحسب ما سمعتها، لم أزد فيها ولم أنقص منها، وقد جعلتها بأسلوب عربي؛ ليفهمها القارئ العربي في كل قطر من أقطار العروبة، ما عدا بعض الأناشيد أو الحكم المسجوعة، فقد أبقيتها كما هي، لم أغيّر فيها ولم أحوّر، وأعتقد أنه في استطاعة القارئ العربي أن يفهم هذه الأناشيد والحكم من القرائن التي تحف بها القصة، ومن الجو الذي تدور فيه أحداثها، كما أنني سوف ألحق بذيل الكتاب جدولاً بالكلمات الشعبية الواردة في هذه الأساطير، وإيضاح معناها بما يقابلها من الكلمات في اللغة العربية؛ حتى لا تخفى على أي قارئ عربي»، ففي هذا المقطع من مقدمة الجزء الأول اهتمام بالتواصل مع القارئ العربي في كل مكان، ورسمٌ للذاكرة الثقافية المميزة للمجتمع السعودي، وهذا يدل على أن كتابة الذاكرة الشفوية الشعبية ليست مخزوناً مادياً فحسب، بل هي نشاط ثقافي لساني؛ يهدف إلى حماية الهوية الثقافية الشعبية للمجتمع.
وفي المقطع المار ذكره عمل بلاغي تواصلي مستمد من وجهة نظر المؤلف، وطريقته في الإقناع والتأثير؛ فالجهة الاعتقادية (وأعتقد أنه في استطاعة القارئ العربي...) تأثيث للفضاء الذهني للمخَاطب، وضبط لانفعاله في لحظة التفاعل القولي والتخاطب اللساني، وهذا مظهر من مظاهر التواصل الإبلاغي في اللسانيات التفاعلية التداولية.
ومن مظاهر بلاغة التواصل في المقطع السابق، التوجيه اللساني القولي: « كما أنني سوف ألحق بذيل الكتاب جدولاً بالكلمات الشعبية الواردة في هذه الأساطير، وإيضاح معناها بما يقابلها من الكلمات في اللغة العربية؛ حتى لا تخفى على أي قارئ عربي»، وهذا التوجيه عمل ٌ متضمن في القول؛ لإحداث فعلي الإقناع والتأثير في المتلقي، وتبليغ المخاطَب مقاصد المؤلف، ومنهجه في التأليف.
ومن مظاهر التواصل الخطابي عند الأديب عبد الكريم الجهيمان في مصنفه (أساطير شعبية)، إنشاء الفضاءات الذهنية للذات المتكلمة في علاقتها بالمخاطَب؛ فتمثيل دلالة القول مرتبط بسياق التواصل، ومقاصد المؤلف، وجهة اعتقاده، وهنا يتكشف المحيط المعرفي المشترك بين المتخاطبين في التفاعل القولي، وتبرز الذوات المتعددة في تأثيثها للخطابات القائمة على العرض والاعتراض، يقول عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله-في مقدمة الجزء الأول من (أساطيره): «وقد يلاحظ بعض القراء أنني شققتُ الكلام، وأطلتُ الحديث في تحليل بعض المواقف من تلك الأساطير، وأنا أجيب على هذه الملاحظة بأنني لم آت بجديد، وإنما أتيتُ بما يفهم من وراء تلك السطور، وما يسبح فيه خيال السامع القديم، عندما تقص عليه تلك الأقاصيص، ووصفتُ بعض الأجواء التي يشعر بها السامع عندما يحضر حلقة من تلك الحلقات، وتتابع في ذهنه تلك الصور والأحداث، الواحدة تلو الأخرى». ففي هذا المقطع تتجلى الذات الكاتبة المتكلمة (وأنا أجيب على هذه الملاحظة بأنني لم آت بجديد) بوصفها ذاتاً متلفظة منشئة للمعنى، وبانية للتمثلات الذهنية للمتخاطبين في التفاعل القولي؛ فإطالة الحديث في تحليل بعض المواقف والأحداث عمل قولي ذهني، يجعل المتلقي مشاركاً في إنتاج المعنى، وصانعاً للظروف المحيطة بإنتاج القول.
ويعدُّ العرض والاعتراض ضرباً من ضروب بناء العوالم الذاتية التواصلية في التخاطب القولي، يقول عبد الكريم الجهيمان: «وهناك جانب جوهري قد يعترض به أحد القراء، وهو أن يقول: ما فائدة هذه الأساطير التي معظمها من نسج الخيال، والتي كان معظمها؛ لملأ فراغ أوقات الأطفال، وأشباه الأطفال في تلك العصور التي لا مجال لملأ الفراغ فيها إلا بأمثال هذه الخزعبلات من الأساطير الخرافية، التي لا فائدة فيها، ولا جدوى من جمعها وطبعها والإنفاق على توزيعها، ثم ما هي الفائدة منها في هذا العصر الذي ساد فيه العلم، وتحققت فيه المعجزات، وصارت فيه خيالات الماضي من الطيران على جذوع النخل، والسير على سطوح المحيطات، صارت هذه الخيالات حقائق يتمتع بها كل مواطن، وينعم في ظلها معظم الشعوب، ثم إن هناك فروع العلم على مختلف درجاتها ومستوياتها، وهي أولى بالدراسة، وأحق بأن تنفق فيها الأوقات، وتبذل في سبيلها النفقات والجهود»، إن في نقلنا لهذا المقطع الطويل، تأكيد لما نذهب إليه من أن التكثير اللغوي في العرض والاعتراض ضربٌ من ضروب تعدد الذوات المتفاعلة في الخطاب الأدبي، ومسلك من مسالك الإقناع والتأثير؛ فتعدد الأصوات مظهر من المظاهر الحجاجية في الخطابات التواصلية، وشكل من أشكال إنتاج المقاصد التداولية للعمل القولي.
ونلحظ في الخطاب المقدماتي عند عبد الكريم الجهيمان في الجزء الأول من (أساطير شعبية) تحول الذات من منشئة للخطاب إلى ذات تبليغية محاجة، تبدي وجه نظرها فيما يقال، وتقارع الحجة بالحجة في عملية تواصلية تفاعلية، تتكشف فيها مقاصد الذات الخطابية، وطريقة تأثيثها للأفضية الذهنية، يقول الجهيمان راداً على بعض المعترضين على خطابه التأليفي: «وأنا -على وجاهة هذا الرأي، واحترامي لمن سيدلي به- أقول: إنني لا أوافق صاحبه، فأنا أرى في هذه القصص والأساطير جوانب هامة، يجب تسجيلها وحفظها من أجل ذلك... فهي أولاً- تمكن الدارس الاجتماعي من دراسة أحوال المجتمعات الماضية من خلال الأساطير...ما هي مشاكل هذه المجتمعات، وكيف يفكرون، وكيف يعالجون مشاكلهم، وماهي أحلامهم وأمانيهم في الحياة، وكيف يتعاملون، وكيف يتخاصمون، وكيف يتصالحون، وما هي الأسس عليها علاقات بعضهم ببعض؟»، إن هذا الرد من الجهيمان – رحمه الله- يكشف وجهة نظره في تدوين الموروث الشعبي، وبخاصة الأساطير، وهذا مسلك من مسالك الذاتية المحاجة في بناء خطابها التواصلي التفاعلي، ونلحظ في المقطع المار ذكره اتكاء المؤلف في حجاجه على طرائق التفكير في المعيش اليومي عند الماضين، وفي ذلك ربط بين الأساطير الشعبية، وتجارب الأمم في الزمن المعيش.
وتظهر بلاغة التواصل في الخطاب الأدبي الشعبي عند الجهيمان بتعداد الحجج وتظافرها وترابطها وتدرجها، ومن ذلك قوله: «ثم من ناحية ثانية، فإن أحلام الماضي صارت حقائق هذا الزمن، ولولا أحلام الماضي -في نظري- لما صارت حقائق الزمن الحاضر، ولولا الأفكار والتفكير في التطور والتطوير لما صار التطوير»، ففي هذا المقطع التواصلي لجأ المؤلف إلى الروابط والعوامل الحجاجية؛ لتوجيه المخاطَب الوجهة المقصودة من الخطاب، وهذا يظهر في قوله: (في نظري)، وهو عامل حجاجي تداولي اعتقادي توجيهي.
ولا يقف الأديب عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- في احتجاجاته اللغوية، وبلاغته التواصلية عند المناويل الذهنية، بل ينصرف إلى العواطف والانفعالات؛ ليحمل القارئ على إنجاز عمل القراءة لمصنفه، يقول: «كما أن في جمعها أيضاً ضرباً من ضروب التسلية البريئة، والتفكه المفيد؛ فالحياة ليست كلها جدّ، والذي يأخذ الحياة على أنها جدّ متواصل، هو -في نظري- إنسان معذب، يعيش في هذه الحياة كالآلة الصماء التي تدور وتدور وتدور حتى يتكامل دورها في الحياة في أسرع وقت وأقصره، ثم يرمى بها في سلة المهملات، أو ترمى في أتون المحروقات، ثم إن عظائم الأمور، وحقائق الكون لا يصح أن تستبد بكل جهودنا عن صغائر الأمور، وخيالات الأحلام، فكم من حلم صار حقيقة، وكم من أمر صغير دفع إلى أمور كبار، وكم هزل قاد إلى جدّ، وكم جدّ قاد إلى هزل»، ففي هذا المقطع التواصلي استعان المؤلف بالرابطين الحجاجيين (حتى، ثم) اللذان يعملان على انسجام الخطاب، ومن ثم تقوية التوجيه نحو المقاصد المرجوة من التفاعل القولي، كما استعان -أيضاً- بحجاجية (كم) الخبرية، وأثرها في إبلاغ مقاصد المؤلف ووجهة نظره، وبيان الآثار والمآلات المترتبة على نبذ التخييل، والاهتمام بعظائم الأمور دون صغائرها.
ومن بلاغة التواصل في الخطاب الأدبي الشعبي عند الأديب عبد الكريم الجهيمان-رحمه الله-التصوير الفني الذي يعدّ مسلكاً من مسالك التفكير البلاغي عند المؤلف، وضرباً من ضروب إنتاج القول في لحظة التواصل الإبلاغي والتفاعل القولي، يقول الجهيمان: «والذي يأخذ الحياة على أنها حقائق وأعمال وجدّ متواصل، قد يقف في منتصف الطريق، فيكون كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع»، وفي الاستعانة بالمثل -أيضاً- إقناع وتوجيه؛ فالذي يأخذ الحياة كلها على أنها جدّ، قاصر عن تحقيق قصدية المؤلف من تصنيف كتابه.
وقد استعان عبد الكريم الجهيمان في خطابه التواصلي بجملة من الأعمال القولية غير المباشرة، وهي أقوال إثباتية استدلالية، ومن ذلك قوله: «وخالق هذا الكون جل شأنه خلق القشور، وخلق بجانبها اللباب...خلق الطود العظيم، وخلق بجانبه الصخرة الصغيرة، وخلق الحيوانات النافعة، وخلق بجانبها الحشرات الضارة... كل هذه الأمور تدلنا بطريق البداهة على أن الحياة يجب أن تكون خليطاً من الأمور الكبار والصغار... الجدل والهزل...الخيال والحقيقة، وبهذا يكون التنقل من حال إلى حال، فيتجدد النشاط، وتنطلق الأفكار من عقالها، وتتفاعل الأماني والأحلام، فتتحول بعد مرورها بطور بعد طور إلى حقائق نافعة، تدفع إلى ألوان جديدة من ألوان الحياة التي يجب أن تكون متجددة على الدوام»، ففي هذا المقطع الإبلاغي التواصلي استحضار لطبيعة المتلقي، وحث له على الاستزادة من كتاب المؤلف؛ فالانتقال من الحال إلى حال مدعاة إلى تجدد نشاط القارئ، ومن ثم إقباله على قراءة النص، والتلذذ بما فيه من حكاياته الجدات، وقصص السمر، وهذه الطريقة في التواصل مظهر من مظاهر التلقي عند المتخاطبين في التفاعل القولي، ومظهر من مظاهر إنتاج المعاني المضمرة في الخطاب الأدبي الشعبي عند المؤلف، وتأكيد حضور المخاطَب في ذهن المؤلف لحظة التأليف والتصنيف، يقول عبد الكريم الجهيمان: «بعد هذا العرض السريع لأهمية هذه الأساطير ومزاياها، التي يعرفها الدارسون ويقدرونها حق قدرها، التي قد يبنون عليها الكثير من البحوث والاستنتاجات عندما يريدون دراسة طور من أطوار حياة الآباء والأجداد»، ففي هذا المقطع التواصلي التفاعلي إعلاء من شأن الكتاب (أساطير شعبية)، وتلك طريقة مهمة في التوجيه والإقناع.
وبعد أن عرض عبد الكريم الجهيمان آراء المعترضين، عدد أصناف المتلقين لكتابه (أساطير شعبية)، وفي ذلك دلالة على وعي المؤلف بطبيعة التلقي في عصره، ووعيه -أيضاً – بطرائق التواصل والاحتجاج الحافة بظروف إنتاج الخطاب، يقول الجهيمان: «بعد هذا، وبعد إيراد ما قد يعترض به أي معترض على أن هذه الأساطير التافهة لا تستحق كل هذا الجهد والعناء الذي يبذل في سبيل نشرها وتوزيعها، بعد هذا كله، أقدم إليك أيها القارئ الكريم هذه الأساطير، فاقرأها على أنها رجوع إلى الماضي، وفي الرجوع إلى الماضي سلوة وتهرب من مشاكل الحاضر، أو اقرأها على أنها خيال، وفي الخيال راحة من الحقيقة التي قد تكون مؤلمة وثقيلة في كثير من صورها وأشكالها، أو اقرأها على أنها خزعبلات وخرافات، وهذه طبعاً هي أقل درجة يمكن أن توضع فيها هذه الأقاصيص، فقد يجد المرء في أحاديث الخرافات قوة دافعة إلى الأمام»، ففي هذا الخطاب التواصلي الأدبي تتكشف مظاهر التفاعل القولي، والإقناع الخطابي؛ فدعوة الجهيمان القارئ الكريم إلى قراءة (أساطيره) عمل قولي تداولي تواصلي، وضرب من ضروب التوجيه اللغوي، وصورة من صور بناء الذات المحاجة في التلفظ القولي، وهذا دليل على وعي عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- بقضية الجنس الأدبي في عصره، وبأفق التلقي لهذا الضرب من الجنس الأدبي.
وختم الأديب عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- مقدمة الجزء الأول من كتابه (أساطير شعبية) بخطاب انفعالي تواصلي تاركاً للمتلقي حرية الاختيار في القراءة، ومعولاً على قيمة مصنفه في البقاء أو الفناء؛ فالكتابة الحية تظل خالدة على الرغم من ذم الذامين وطعن الطاعنين، يقول الجهيمان: «وعلى أي حال، فإن مخالفة المخالف لا تقدح في أي عمل من الأعمال؛ فالناس قلّ أن يتفقوا على أمر من الأمور، وإذاً، فمن شاء أن يقرأها فليقرأها، ومن شاء أن يهجرها فليهجرها، ومن شاء أن يمدحها فليمدحها، ومن شاء أن يذمها فليذمها؛ فإنها إن كانت تستحق الحياة فسوف تبقى رغم قدح القادحين، وإذا كانت ليست لها مقومات الكائنات الحية، فسوف تموت، ولن يحييها مدح المادحين، ولا ثناء المعجبين»، ففي هذا المقطع اتكأ الجهيمان على تداولية أسلوب الشرط في الموقف التخاطبي؛ لإنجاح العمل التعاوني التواصلي بين المؤلف ومتلقيه، وإثبات وجهة نظره وموقفه من الكتابة الحية النافعة للفرد والمجتمع.
لقد كان الأديب عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- رائداً من رواد الكلمة الحية في الأدب السعودي الحديث؛ ففي (أساطيره) الخالدة تتراقص الألفاظ، وتتحرك أغصان المعاني؛ لترسم لوحة متحركة من حكايات الجدات، ومن قصص مجالس السمر التي عاشها الآباء والأجداد في هذا الوطن المعطاء.
| الجزيرة الثقافية - الجمعة السبت 18 أكتور 2024