يقول أستاذنا عبد الكريم الجهيمان في مذكراته أنه ولد من أبوين من قريتين متجاورتين هما غسلة والوقف .. وأنه عندما كبر سأل والدته عن سنة مولده فقالت إنه ولد قبل سنة الرحمة بخمس سنوات . والمعروف أن سنة الرحمة
عام 1337هـ (1918م) .. رغم أن الشيخ حمد الجاسر رحمه الله من مواليد 1327هـ يقول إنه عندما قدم إلى مكة عام 1347هـ (1928م) كان الجهيمان قد سبقه إلى هناك وأنه قد استقبله بمكة لابساً ألبشت ويحمل على كتفه بندقية إذ كان يعمل جندياً في الهجانة .. بينما الجاسر حافي القدمين ومكشوف الرأس . أي (مصلع) وهذا يعني أن الجهيمان أكبر من الجاسر .. ويؤكد ذلك الأستاذ سعد البواردي . وعندما يسأل الجهيمان عن صحيح ذلك يقول قصة شخصين سماهما إنهما ولدا في سنة واحدةوعندما بلغا الستين من العمر أوقف أحدهما العداد . والثاني عندما بلغ السبعين سأل صاحبه عن عمره فقال إنه في الستين من عمره فرد عليه الأول الوعد في الباطن الجنوبي .. وهذا يعني موقع المقبرة عند أهل شقراء .
افترق والداه بالطلاق في صغره فلم يحظ بعطف والده كاملاً ، فكان يعيش متنقلاً بين والدته وأخواله وبين والده عندما تزوج بأخرى ... ولكن سرعان ما تزوجت والدته بآخر فانتقلت لتعيش معه .. فخسر عطف ورعاية والدته .. ولكنها أصبحت تزور أهلها مرة أو مرتين في الأسبوع وتتولى تنظيف جسده وملابسه وتشرف على مأكله ومشربه فيأنس بها ويرتاح وينسى حقده عليها وعلى
زوجها .. ولكنها سريعاً ما تنسل خفية لتذهب إلى منزل زوجها فيفتقدها .. فصار ممتعضاً وكارهاً هذا الرجل الذي تذهب له والدته .. وتمنى لو يعرفه ليقتله .. ثم بدأ يحقد على والدته أيضاً لماذا تفضل عليه هذا الغريب ؟ فإذا أتت لتهتم به مرة أخرى نسي ما أضمر لها .. ولكنه بدأ يرقب موعد خروجها لتذهب إلى زوجها فيجمع الحجارة ليقذفها بها وهي مدبرة فتقع الحجارة على يمينها أو شمالها أو تقصر عنها فتتضاهر بأنها لا تحس بها . فيعود لجدته وقد خف ما يحس به من آلام وحنق .
بدأ يكبر .. ويفهم أن ذهاب والدته لزوجها شيء طبيعي .. وأنها تحبه .. ولولا محبتها له لما جاءت لزيارته .. فلهذا لم يعد يرميها بالحجارة إذا عادت لزوجها .. ولكنه ما زال يكره زوجها .. ومع الأيام اكتشف أنانيته وحبه للتملك والإنفراد بوالدته .. فبدأ كرهه لزوج والدته يخف تدريجياً ..
ويقول إن نساء القرية يذهبن إلى مزارع الحنطة أيام الشتاء للزراعة أو الحصاد .. وكان جده يمنعه من الذهاب مع والدته حتى لا يشغلها عن عملها .. ففي إحدى الأيام تغافل جده فلحق بأمه فحاول جده اغراءه بمعسول الكلام بالعودة ولكنه لم يستطع فبعث له بأحد العمال لإعادته .. فحاول العامل إقناعه بالعودة ولكنه لم يقتنع فحمله فوق كتفه فبدأ الطفل يرفسه برجليه ويضربه بيديه ، والعامل متجه به إلى جده فما كان منه إلا أن بال على ظهره ولهذا نجده يفرح لانتقامه ممن سيعيده إلى جده ويبعده عن والدته .
بدأ يسافر مع والده ليجمع معه الحطب أو العشب من البر ويعود بها للقرية أو المدينة (شقراء) لبيعها وشراء بعض متطلبات الحياة الضرورية بثمنها.
وعند سؤال أستاذنا الجهيمان عن فترة طفولته نجده يقول : إنني والحمد لله قد عشتها طولاً وعرضاً .. وتمتعت بأنواع من الحرية والإنطلاق لم يتمتع بها كثير من الأطفال .. على الرغم من افتراق والديّ .. فكنت أعيش تارة عند أمي وأخوالي .. وتارة أخرى عند والدي وأعمامي ..
وكان يستمتع بلقاء جدته ليلاً ويطلب منها أن تقص عليه بعض الحكايات التي يحبها .. والتي لديها منها الكثير .
بلغ السادسة من عمره .. ومرض زوج والدته وتوفي . فأدخلته والدته كُتَّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة .. وليرتاح من الأسفار مع والده .
أمضى سنة في الكُتّاب وكانت والدته تتابعه وتحثه .. فأصبح يقرأ ما يكتبه المطوع على اللوح أو على الرمل .. وبدأ يقلد ما يصلهم من خطابات .. ويعيد كتابتها مرات ومرات .. ثم بدأ يقرأ القرآن وكتب المواعظ فصارت والدته تدعوه مع بعض النسوة ليقرأ لهن سورة يوسف .
يقول في مذكراته التي نشرها قبل ثلاثة عشر عاماً .. انه كان مغامراً في طفولته . فقد تسلق نخلة طويلة يبحث عن صغار الطيور وعندما أراد النزول لم يستطع ولم يكن هناك من يساعده فكاد أن يتعرض للسقوط أكثر من مرة .. وكان موتاً محققاً لو سقط ولكنه استطاع أخيراً من الانخراط إلى جذع النخلة رغم تعرضه للكثير من المصاعب .
ومرة ذهب إلى القصور مكان الزراعة الشتوية والتي تبعد عن القرية حوالي خمسة عشر كيلو متراً فقابله بالاتجاه المعاكس ذئباً وكان لا يبعد عن طريقه كثيراً فتضاهر بالشجاعة ورباطة الجأش .. لأنه قد سمع أن الذئب لا يهجم إلا على الجبان الرعديد الذي يظهر عليه الخوف ولهذا تماسك وتضاهر بالشجاعة.
وذات مرة نزل إلى البئر ليصطاد صغار الحمام .. وعندما صاد حمامة أراد الصعود بواسطة (الرشاء) المتدلي من أعلاها فلم يستطع .. فحاول وبلغ به الجهد مداه .. فتعلق في الهواء .. وبقي فترة فقد السيطرة على نفسه فانطلق هاوياً إلى قاع البئر ولكن يداه بقيتا ممسكتين بالرشاء فحفظت توازنه ومنعته من الإرتطام بجوانب البئر .. فسقط بالماء ومن حسن حظه انه يعرف العوم فتمسك بالجال .. حتى حضر من الأهالي من ربط زبيلاً في رأس الرشاء فجلس به وأخرجوه . بعد أن تجرح جسمه فوجدوا في صدره انتفاخاً وإذا هي الحمامة التي سبق أن اصطادها قبل سقوطه .. وعالجت والدته الجروح وأعطت ابن عمه الحمامة لأنه هو الذي أبلغهم بسقوطه في البئر .. وهكذا كما يقول خرج من المغامرة الخطيرة بلا فائدة ..
وكان في إحدى مغامراته يحفر جحر جربوع بعد أن سد منافذة .. وبعد محاولات يجد في الجحر أفعى قد بلعت جربوعه قبل صيده ، ومن حسن حظه أنه قد أدخل المحش عليها بالجحر قبل سحبها خارجه فوجدها قد انقطعت إلى نصفين.
يفرح كغيره من الأطفال بأيام العيد .. فهم لا يلبسون طيلة أيام السنة إلا قماشاً خشناً يسمى (الأمريكاني) فأيام الأعياد يستبدلونه بقماش أبيض يسمى (القرطاس) ناصع البياض وله صوت إذا سار به الطفل كصوت القرطاس .. ويدورون بالأسواق ويقفون عند الأبواب ويرددون بصوت واحد (أبي عيدي عادت عليكم في حال زينه .. جعل الفقر ما يجيكم ولا يكسر يديكم ولا رجليكم) وإذا لم يجبهم أحد كرروا نفس الكلمات .. حتى يسمعوا من يرد عليهم فيقولون له : نسوق الحميِّر ولو نوقفه .. فإذا قالوا : سوقوه (أي انصرفوا) ردو عليهم : (عشاكم شط الفارة ويدامه بول حمارة) أما إذا قالوا لهم : أوقفوه ، فإنهم يرددون جملة تدل على الشكر والامتنان ، حيث يقولون بصوت واحد : عشاكم شط الفاطر ويدامه سمن ساكر!!) والشط هو ظهر الجمل الملئ بالشحم والدسم ..
فيفتح الباب وتوزع عليهم الحلوى والحمص والتمر اليابس وغيره .
عند بلوغه الثامنة من عمره ودع الطفولة وبدأ عهد الشباب .. وبدأ يساعد والده بالذهاب إلى البر مرة أخرى لجمع الحشائش والاحتطاب .. فكان والده يقص عليه القصص والحكايات المسلية مثل قصص بني هلال وقصة كليب وائل وقصة عليا وأبا زيد وغيرها ..
ثم عندما شارف على بلوغ العاشرة من عمره رافق والده إلى الرياض لطلب المعيشة .. والتي تبعد حوالي 200 كم مشياً على الأقدام من قرية إلى قرية عن طريق سدير فالمحمل .. فكل بلد يصلونها يستضيفون أهلها .. فإذا مكثوا في الرياض شهراً أو شهرين عادا بما كسباه . فإذا نفذ ما عندهما عادا مرة ثانية إلى الرياض .. وقال إن همتهما قد سمت فاشتريا حماراً استفادا منه في سفرهما وعندما يصلا إلى الرياض يبيعانه بربح ضئيل علاوة على ما استفاداه منه بالركوب ونقل المتاع . ثم ارتفعت امكانياتهم فاشتريا جملاً فصارا يقطعان الطريق بخمسة أيام بدلاً من مضاعفاتها في المرات السابقة .. فأصبحا عند قدومهما للرياض ينيخان جملهما عند باب الشيوخ .. أي الملك .. وكانوا يدعونه الإمام .. ومع الآخرين يذهبون إلى ابن جميعة المسئول عن أضياف الملك فيكتب أسماؤهم فيتعشون في أول يوم في مضيف ابن مسلم فيقدم لهم الأرز وفوقه اللحم .. أما بقية الأيام فيأكلون في مضيف آخر يعتبر درجة ثانية .. وقال ان هناك مضيف ثالث هو مضيف خريمس .. وهو للمحتاجين طيلة أيام السنة ..
فبعد أن يتعشوا في اليوم الأول .. يذهبون في اليوم الثاني للسلام على الإمام عبد العزيز فيصافحونه .. وبعد يومين أو ثلاثة ينادونهم بأسمائهم فيعطون كل واحد منهم كسوة وعدداً من الروبيات الهندية .. التي هي العملة السائدة وقتها .. وكان يعطى خمس روبيات أما والده فكانت عادته أن يعطى كسوة وعشرين
روبية .
فإذا عادوا إلى القرية صار يفاخر أقرانه ويمد لهم يده قائلاً بكل فخر :إن هذه اليد قد صافحت الإمام .. وقد ذكر لي أبي سهيل حفظه الله ، أنهم عندما كانوا يذهبون إلى الرياض وليس لديهم ما يأكلونه .. كانوا إذا وصلوا للقرية .. - أي قرية - .. يبحثون عن أفضل بيت فيه فيرمون أحذيتهم داخله .. ويذهبون لأقرب مسجد فبعد الصلاة يتفقد صاحب المنزل من في المسجد من الغرباء فيدعوهم للغداء أو العشاء .. وهذا هو المتبع وقتها ..
عند بلوغه الثالثة عشر من عمره طلب من والده أن يبقيه بالرياض لطلب العلم .. وهكذا ذهب به والده للمسئول عن شئون الطلبة .. فقبل ونزل مع أحد الطلبة في بيت مخصص لهم يسمى (بيت الأخوان) .. وبدأ من أول السلم يتعلم النحو والفرائض وعلم الفقه .. وكانت الدراسة تعتمد على حفظ المتون ، فبدأ بحفظ الأجرومية في النحو .. والرحبية في علم الفرائض .. وآداب المشي إلى الصلاة .. وبعد سنة أختير ليدَّرس إحدى بناة الأسر الكريمة وكانت كما ذكر لي (شيخة بنت الإمام عبد الرحمن) فاختير لصغر سنه .. وكان كما ذكر يدرسها قبله الشيخ عبد العزيز ابن باز .. فبعد أن كف بصره اختاروا أستاذنا الجهيمان لهذه المهمة .. ففرح فرحاً شديداً لأن أكله وشربه سوف يكون لدى هذه الأسرة ، ثم إن له كسوة وشرهة في العيدين .. وكان كثير من زملائه طلبة العلم يغبطونه على ما هو فيه من عيش مريح .. وكان والده يعمل بالرياض ولا يراه إلا في أوقات متنباعدة .. فإذا قابله عامله معاملة الفتى المستقل عن والديه .. واعتمد في حياته على نفسه وجهده .. وشعر أنه قد أصبح رجلاً بامكانه اختيار طريقه بنفسه .. وفي هذه الأثناء قدم ابن عمه ابراهيم للرياض لينظم لطلبة العلم فتوسط لـه وأنزل مع بعض الطلبة ورتب له شئون معيشته .
وجاءت سنة السبلة عام 1347هـ (1928م) وانتصار الملك عبد العزيز على المتمردين فذهب للحج وعند عودته مع حاشيته بالسيارات .. فكانت تعود تلك السيارات خالية للحجاز فتشاور مع ابن عمه ليأخذا إذناً بالركوب إلى مكة المكرمة لمواصلة طلب العلم هناك . وهكذا كان .. فبعد وصولهم إلى هناك قيل لهم لن تستطيعوا طلب العلم إلا بنفقة فبحثا عن عمل .. فيقول أن ابن عمه قبل كعضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما هو فرفض لصغر سنه فأشير عليه بالذهاب للتسجيل كجندي بالهجانة .. مع مواصلة القراءة وطلب العلم على بعض المشايخ في الحرم المكي .
وجاء الملك عبد العزيز للحج في العام التالي 1348هـ وكان قد افتتح وقتها بمكه معهد اسمته (المعهد العلمي السعودي) فلم يقبل عليه الطلاب كما ينبغي فطلب الملك من المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم أن يختار جملة من الشباب لينضموا إلى المعهد .. على أن تتكفل الدولة بسكنهم وأكلهم وشربهم مع مصروف شهري ، فالتحق مع ابن عمه بالمعهد ويذكر من زملائه الشيخ حمد الجاسر وعبد الرحمن آل الشيخ ومحمد بن هليل وعبد الله عبد الغني خياط وأحمد علي أسد الله وهكذا أمضى في المعهد ثلاث سنوات .. إذ تخرج منه بعد إجراء الامتحان النهائي في 10/11/1351هـ ومنح شهادة كتب فيها (بسم الله الرحمن الرحيم . الحكومة العربية الحجازية .. مديرية المعارف العمومية .. المعهد العلمي السعودي . قسم المعلمين .. تشهد مديرية المعارف العمومية أن عبد الكريم بن عبد العزيز جهيمان المولود في نجد قد أتم الدراسة المقررة لفئة المعلمين الأولى بالمعهد العلمي السعودي ونجح في الاختبار النهائي الذي أجري في مكة المكرمة بتاريخ 10-11-1351هـ وكان ترتيبه الأول من مجموع عدد الناجحين في فصله البالغ أربعة طلاب والله ولي التوفيق .. حرر بمكة المكرمة
في 2-8-1352هـ مدير المعارف .. إبراهيم الشورى (*).
أكتفي بهذا القدر حتى لا أثقل عليكم ،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
محمد بن عبد الرزاق القشعمي