محمد بن عبدالله السيف.
علاقتي بأستاذي الشيخ عبدالكريم الجهيمان لا تعود إلى ذلك المساء الجميل الذي قدمني فيه إليه الأستاذ محمد القشعمي، على الرغم من أهمية ذلك الحدث واعتزازي به، إلا أن العلاقة الفكرية تمتد إلى سنوات الدراسة في المرحلة المتوسطة، ذلك عندما كنا نتزاحم بالمناكب في مكتبة المدرسة المتوسطة من أجل استعارة وقراءة كتب الأساطير الشعبية، التي كنا نجد فيها - ونحن صغار - متعة لا تعادلها متعة آنذاك، وما زالت هذه المتعة تنمو وتكبر، وللشيخ الجهيمان كثير فضل علينا وعلى الكثيرين من حيث لا يعلم هو!! إذ رغّب إلينا القراءة وحببها في قلوبنا وزينها، عندما قدم إلينا أساطيره الشعبية بأسلوبه الشائق الجميل وبالمناسبة فالكثير من الكتاب المرموقين تخرجوا من أمثال هذه المدرسة فهناك من تأثر بمدرسة كليلة ودمنة وآخر بالحيوان وثالث بالأساطير الشعبية ومن هذه المدارس وغيرها انطلقوا في رحاب الفكر والثقافة. وعلى الرغم من الفارق الزمني الكبير بينه وبيني والذي يتجاوز الستين عاماً قطعاً، إلا أن ذلك لم يكن حاجزاً دون صحبته والتشرف برفقته، فأنا لا أخشى حاجز العمر كما يخشاه الشاعر نزار قباني عندما قال: حاجز العُمر خطير وأنا أتحاشى حاجز لعُمر الخطير فالجهيمان أنيس لا تُمل منادمته وصاحب لا تشقى بمجالسته، روحه شابة ممتعة، وابتسامته ترتسم على الشفاه دائماً، يتحث في كل شيء وعن كل شيء، ولا يقول إلا مفيداً من القول، كل الكلمات اللواتي تتناثر من مرشفه تنثر الحكمة والفائدة والمتعة يميناً وشمالاً. والحديث عن الشيخ عبدالكريم الجهيمان يطول بطول قامته الفكرية ويعلو بعلو هامته فهو أحد أعلام هذه البلاد ورائد من رواد التعليم القدامى وصاحب السبق في توثيق وتحقيق الأمثال الشعبية في جزيرة العرب، ذلك العمل الذي يعد عملاً توثيقياً علمياً لمسار الثقافة الشعبية السعودية وحفراً أركيولوجياً في دواليبها من خلال البحث والتنقيب والممارسة الميدانية في مختلف مناطق الجزيرة العربية وصاحب المؤلفات العدة والتجربة الأدبية الكبيرة والخبرة العريضة، والرائد الأول للصحافة بالمنطقة الشرقية، فكيف لفتى مثلي أن يتحدث عن شيخ مثقل بمثل هذا التراكم المعرفي؟!! وحيث أجد نفسي دون الحديث عن آثاره ومآثره، فلعلي أقتصر في مقالتي هذه على تبيان شيء مما خفي من حياة أبي سهيل عن أنظار محبيه وقرائه وظل يلازمه سنين طويلة، ذلك المنهج الذي ارتسمه لنفسه في حياته، لا يحيد عنه ولا يبتغي به بدلاً، وهو سعيد به مسرور، يمارس أبو سهيل منهجه هذا في حله وترحاله، في حضره وسفره، في الرياض أو باريس، في دهاليز قاهرة المعز أو في أزقة دمشق الشام وزنقات مراكش وفاس، على شواطئ الخليج أو في سفوح الأطلس الكبير. هذا المنهج هو ذلك البرنامج الرياضي الذي التزم به هذا الشيخ الأبلج الذي يخطو بسنواته نحو إكمال قرن من عمره، وهو يزداد تألقاً وإبداعاً - أمده الله بالصحة والعافية - في الوقت الذي ثقل على شباب في مشارف الثلاثين - من أمثالي - الالتزام بهذا المنهج والتقيد به، وهم الأولى به، إن أرادوا صحة وعافية، ولكنهم في كل مرة لا يعقلون!! لذا أبى هذا الشيخ إلا أن يكون نبراساً يحتذى ليس في العلم والفكر والثقافة فحسب وإنما في المأكل والمشرب، وفي الحرص على أن يعيش حياة صحية سليمة من المنغصات، ليس افتتاناً في الدنيا وإنما المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. ينقسم البرنامج الرياضي عند أبي سهيل إلى قسمين، المشي والسباحة، فهو يمشي يومياً مسافة لا تقل عن أربعة كيلو مترات، ويعوم يومياً في حوض السباحة لمدة لا تقل عن ساعة من الزمان، وسأكتفي بذكر بعض الأمثلة التي تؤكد مدى التزام شيخنا بهذا المنهج الذي تشرّبه وأصبح جزءاً من حياته وممارساته اليومية دون تصنَّع أو تكلّف. ذات مرة وفي صباح صيفي جميل وعلى شواطئ البحر الأبيط المتوسط، انطلق الشيخ أبو سهيل برفقة أبي يعرب إلى الشاطئ ليمارس هوايته في السباحة والمشي ثم يعود به، ولما وصلا إلى الشاطئ نزل أبو سهيل إلى البحر، وكانهناك مجموعة من الشباب الذين يمارسون بدورهم هواية السباحة وكانوا قريبين من الشاطئ، فنادى عليهم أبو يعرب بأن يأخذوا بالهم ويراقبوا هذا الشيخ الكبير!! فأجاب الشباب بأنهم سيأخذونه إلى عيونهم ويحيطونه برعايتهم، وما هي إلا لحظات وقد انطلق أبو سهيل إلى أعماق البحر، ومضى عائماً بعيداً عن الشاطئ، ولم يستطع أولئك الفتية اللحاق به، فذعر أبو يعرب مما يرى، وأضمر خيفة في نفسه، ولم يقر له قرار إلا بعد أن رأى على مسافة بعيدة جداً تلك الشعيرات البيض في رأس أبي سهيل الذي سرعان ما اختفى في أعماق البحر، عندها غادر أبو يعرب الشاطئ قليلاً، ثم عاد ليجد أبا سهيل وقد أطلق اقيه للريح على تلك الرمال الناعمات في الشاطئ، ولكم كانت مفاجأة أبي يعرب عندما تحلق حوله أولئك الشباب اللبنانيون - الذي سبق وأوصاهم بأبي سهيل - يقولو له: «يا سيدنا في المرة القادمة أوص شيخك الكبير علينا ولا توصنا عليه!!». وفي العام الماضي 1999م وفي شهر يناير «كانون الثاني» حيث يقام المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة، حل أبو سهيل في أرض الكنانة، وكان الجو بارداً، وقد اكتست سماء القاهرة بالغيوم وتوشحت عمائرها بالضباب «شبورة» وغزت نسمات النيل الباردة كل شوارع وأزقة القاهرة، ولما رأى أبو سهيل أن مناخ القاهرة لا يساعده على ممارسة برنامجه الرياضي بشقيه المشي والسباحة، رأى أن من الخير له ولأهل القاهرة أن يغادرها إلى الرياض، من أجل ممارسة الرياضة والرياضة فحسب!! وقبل أكثر من شهرين عندما أردنا الذهاب معه «أبو يعرب وابنه سهيل وكاتب هذه السطور» إلى منزل صديقه ورفيق دربه فقيد الفكر العربي الشيخ حمد الجاسر لتقديم واجب العزاء لآل الجاسر الكرام، شدد الشيخ عبدالكريم في أن نحضر إليه بعد صلاة العصر مباشرة وألا نتأخر من أجل أن نعود قبل صلاة المغرب ليمارس برنامجه اليومي، وما إن عدنا إلى منزله بعد تقديم واجب التعزية إل وقد رمى بعقاله على ابنه سهيل وانطلق يجري لا يلوي على أحد، وا أعطانا فرصة لتوديعه وتقبيل رأسه. وقبل أيام سافر أبو سهيل إلى دولة البحرين للالتقاء بسعادة السفير السعودي هناك والاجتماع إلى عدد من المثقفين والمفكرين البحرينيين، وكنا بصحبته أبو يعرب وكاتب هذه السطور وآخرون، وفي المساء وجه إلينا سؤالاً عمّن سيصحبه غداً في برنامجه الصباحي؟ فكانت فرصة لي أن أجد من يشجعني على أداء التمرين الصباحي!! «المشي لمسافة أربعة كيلو مترات» فأبنت له أنني صاحبه غداً، وعليه إيقاظي في الصباح الباكر، إلا أن شيخنا انسل من مرقده باكراً وقد صحبه الأستاذ الشاعر عبدالرحمن المنصور، ولما أفقت وجدتهما وقد عادا إلى مسكننا في شقة الروائي السعودي جبير المليحان، فسألت شيخي أبا سيهل عن الوعد فيما بيننا؟ فأفاد أنه وجدني مستغرقاً بالنوم، فخشي على شاب مثلي أن يثقل عليه بالمشي!! إلا أن أبا يعرب صاح قائلاً: «أبا سهيل كلام الليل يمحوه النهار». ولقد أجرى أبو سهيل قبل سنوات عملية جراحية بركبته وكان بإمكانه تأجيلها والمماطلة فيها كما يفعل عادة كبار السن، إلا أنه نظراً لرشاقة جسمه الذي تسربت فيه الرياضة أبى إلا أن تُجرى له العملية، وقد نجحت بحمد الله. تلك إشارات وقفزات من خلال حياة أبي سهيل وممارساته اليومية نقدمها عسى أن يستفيد منها أسرى موائد الطعام، أولئك الذين لا يستطيعون حراكاً من أثقال التخمة، وقد علت التجاعيد وجوههم، وألقت السمنة بكاهلها عليهم!! في الوقت الذي اختط أبو سهيل لنفسه منهجاً آخر في الأكل، يتكون في إفطاره من كأس حليب ساخن وقطعة جبن صغيرة مع الخبز، وفي غدائه خضار مسلوقة ولا بأس في قطعة صغيرة من السمك، أما اللحم الأحمر فقد هجره إلى غير رجعة منذ خمسة وعشرين عاماً. التزام جاد، وحياة صحية سليمة ومقاومة لشهوات النفس في المأكل والمشرب وحب الدعة والراحة، وإذا لم يكن أبو سهيل لنا بها قدوة فمن يكون؟! وفي الختام يحضرني بيت من الشعر لصاحبي غازي القصيبي، كأني به أراد أن يصف ويصور شعورنا تجاه أبي سهيل وقد أثقلنا عليه بالزيارات المتتاليات إلى منزله العامر: لك الله أتعبناك لا نحنُ نرعوي ولا أنت من زوراتنا تتضجّرُ!!
- المصدر: الجزيرة *7/9/1421 - 2/12/2000م