أدب الرحلات معروف منذ قديم الزمان ، حيث يصف الرحالون مايرونه في رحلاتهم لأحوال البلاد التي يمرون بها ... يصفون مجتمعاتهم ... وعوائدهم ... وعقائدهم ... وطريقة علاقة بعضهم ببعض ... كما يصفون الحركة العلمية والثقافية وطرائق الحكم ... وعلاقة الحاكم بالمحكوم ... وما إلى ذلك ... من الأمور التي يهم قارئ هذه الرحلات أن يطلع عليها .
وقد قمت بعدة رحلات إلى كثير من البلاد العربية والإسلامية ... كما قمت بعدة رحلات إلى كثير من الدول الأوربية .
وكنت في هذه الرحلات أسجل كل ما يلفت نظري مما أراه أو أسمعه في تلك البلاد التي زرتها ، وكانت الصعوبة التي تعترض طريقي هي معرفة لغة البلاد التي أزورها .
فمعرفة اللغة مهمة جدا لمن يريد أن يطلع على أخلاق الناس وطبائعهم ... ومعرفة خبايا نفوسهم ، وأسرارها .
وكنت في أشد الشوق إلى أن أقوم برحلة أدور فيها حول الكرة الأرضية ؛ من باب العلم بالشيء ولا الجهل به .
وكنت أؤجل هذه الرحلة من عام إلى عام ، لعلي أجد فرصة لتعليم اللغة الإنجليزية ؛ لأنها هي أكثر اللغات انتشارا ؛ ولأن من يعرفها يستطيع أن يتفاهم بواسطتها في معظم المجتمعات العالمية ..
ولكن السنوات تمر ، والفرص لا تواتي من هو في مثل سني ، ومن هو في مثل وضعي العائلي ؛ حيث تملأ شئون أسرتي معظم أوقاتي ، وأيام حياتي ...
ولهذا فقد عزمت على أن أقوم بهذه الرحلة ؛ مع أن بضاعتي في اللغة الإنجليزية مزجاة ... حيث لا تتجاوز بعض التعبيرات البسيطة ؛ التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
ومع ذلك فان ما أعرفه على بساطته كان يحل كثيرا من الصعوبات التي كنت أمر بها ... مصحوبا ببعض الاشارات ؛ التي تساعد على فهم ما أريد .. أو ما يراد مني ..
والرحلات لها أهداف مختلفة ، ولأصحابها أهداف شتى ...
فهناك الرحلات لطلب العلم والمعرفة ، وهناك الرحلات لطلب لقمة العيش ، وهناك الرحلات للتجارة و الكسب ، وهناك الرحلات للغزو والجهاد ولا شك أن أفضل الرحلات أسماها ما كان لطلب العلم والمعرفة أو للجهاد في سبيل الله ... ويتلوها في الفضل السفر لطلب المعيشة والكسب الحلال ... وهناك كثير من الرحلات التي يعود صاحبها . وكأنه لم يسافر ؛ انه لا يستفيد من تلك الأمم الراقية التي سافر إليها ، لأنه مغلق على نفسه ، لا يحاول أن يؤثر في تلك المجتمعات ... أو يتأثر بها ..
وهذا النوع من المسافرين محدود التفكير ... مغلق الذهن ... لا يستفيد ولا يفيد ولا من رحلاته قليلا ... ولا كثيرا .
والرحالة الحق في نظري ... هو من يؤثر ... ويتأثر... من يأخذ من تلك المجتمعات المدنية أحسن ما فيها من أخلاق وعادات ، ويترك ما يتنافى مع هذه الأخلاق مما اعتادوا عليه ..
والرحالة الحق هو الذي يرفع سمعة وطنه ؛ بسلوكه الشريف النظيف ... وأخلاقه العالية .. وطباعه المحمودة .
والأسفار هي التي تكشف المرء على حقيقته ولذلك فان شخصا في ما ضي الزمان أثنى على شخص أخر فقيل له : هل عاملته في بيع أو شراء فقال لا.. ثم قيل له : هل رافقته فــي سفر ..؟ فقال لا ، فقيل له : إنك إذا تثني عليه وأنت لا تعرفه ..
والأسفار والرحلات لها محاسن ولها مساوىء؛ ولكن محاسنها أكثر من مساوئها لمن أحسن التصرف ، وبصر بمواطن الاستفادة،وعرف كيف يعاشر الناس ... ويكسب ودهم واحترامهم،
وكيف يأخذ من محاسن أخلاقهم وعاداتهم ..
وقد قال الله سبحانه وتعالى في الحث على الأسفار: (أفلم يسيروا في الأرض). الأية فالسفر يدعو إلى التفكير والتدبر، واكتساب العلم والمعرفة، والإحاطة بكثير من الأمور التي لايعرفها المقيمون في ديارهم .. وقد حرصت على أن أسجل في هذه الرحلة ما أراه مفيدا للقارىء من عادات حميده ، أو اختراعات مفيدة .. أو مظاهر غريبة تدعو إلى العجب أو الاعجاب فالفضل ليس مقورا على أمة من الأمم .. فكل أمة فيها محاسن وفيها مساوىء ، فيها الخير وفيها الشر، وانما تتفاضل الأمم بكثرة محاسنها ، وقلة مساوئها ..
فإلى هذه الرحلة _ أيها القارىء الكريم _ لترى فيها ما رأيت .. وتسمع منها ما سمعت ..
وما توفيقي إلى بالله توكلت وإليه أنيب ..
1/6/1400هـ .