هذه لندن .
أنا الأن أزور عاصمة تلك البلاد التي كانت لا تغيب ممالكها الشمس .. وكانت تدعى بريطانيا العظمى .. وتدعى سيدة البحار .
أما الأن فقد انكمشت تلك الامبراطورية العظيمة .. وانخفضت مواردها حتى صارت تحل لها الصدقة .. لقد بدأ انحسار ذلك السلطان الواسع منذ أن وضعت الحرب الثانية أوزارها ... والتي خرجت منها بريطانيا منتصرة .. ولكن حلفاءها الأقوياء بدأوا يجنون ثمار النصر وبدأوا يرثون مستعمراتها واحدة تلوأخرى .. حتى بقيت أخيرا صفراليدين .. خالية الوفاض..
مهيضة الجناح .. تسير من انكماش إلى انكماش ومن بذخ وعز وسلطان إلى تقشف وتدحرج إلى الخلف دوليا واقتصاديا .
ولنعد الأن إلى لندن .. وسمعت أن بريطانيا تشكو الجفاف وقلة الأمطار .. وانهم استسقوا وتشفعوا بأحد قساوسة الهنود .. وانفتحت عليهم أبواب السماء بالأمطار والثلوج .. حتى نبتت الأعشاب في عتبات بيوتهم .
انها بعض الاعتقادات الشاذة في تلك الأمم المتحضرة .
وهكذا وجدت سماء لندن مليئة بالغيوم والضباب والأمطار والثلوج ويستمر نزول الأمطار والثلوج معظم ساعات الليل والنهار.. والناس يروحون ويغدون حاجاتهم .. لا يعوقهم المطر. ولا تمنعهم الثلوج عن مواصلة جهودهم وأعمالهم .. اليومية أو الليلية .
وقد رسمت لنفسي برنامجا محددا جعلت في مقدمته زيارة السفارة السعوية وزيارة الملحق الثقافي لبلادنا .. وبحثت عن عنوان السفارة فلم أجده .. ولكنني وجدت عنوان الملحق الثقافي والملحق الثقافي سوف يدلني على السفارة السعودية.. ورجل الديك تجيت الديك كما يقولون في الأمثال .
وصلت إلى لندن وانا مرهق جدا من أثار الضياع .. ومن أثار تغير الجو. حيث انتقلت من جو حار جدا إلى جو بارد جدا .. وبقيت على سريري في الفندق يومين كاملين .. استعدت فيهما قوتي وهدوئي .. وتأقلمت مع الجو.. واعددت نفسي لتنفيذ البرنامج الذي رسمته لنفسي ..
بعد وصولي إلى لندن بيومين ذهبت لزيارة الملحق الثقافي الأستاذ عبدالعزيز التركي وهو صديق قديم بربطني به علاقات ود وإخاء منذ ستة وثلاثين عاما .. وعندما دخلت عليه في مكتبه كان دخولي مفاجأة لم يتوقعها في الصيف ، فكيف يتوقعها في عز الشتاء وسلمت عليه بحرارة قابلني بأكثر منها .. فأعطتني هذه المقابلة حرارة جديدة .. استطعت أن اقاوم بها برودة الجو الذي انتقلت إليه فجأة .. وقد وجدت عنده في المكتب صديقين عزيزين هما الأستاذ عبدالله المسعري والأستاذ عبدالعزيز الرويس فسلمت عليهما وأنست بهما .. ثم طلبت من الأستاذ التركي .. أن يتصل بالسفارة .. ليأخذ لنا موعدا لمقابلة السفير.. فقيل لنا أنه في زيارة خاصة لإحدى السفارات.. وسوف يعود بعد ساعة.. فذهبت إلى السفارة في الموعد المحدد .. وانتظرنا السفير حتى عاد .. وهو الشيخ فيصل الحجيلان الذي تولى أعمال السفارة أخيرا خلفا للشيخ عبدالرحمن الحليسي .. قابلني السفير مقابلة ممتازة واعتذر عن تأخره خارج السفارة .. وقال انني كسفير جديد ملزم أدبيا .. وبحكم وضعنا الدولي أن أزور جميع السفراء في لندن زيارة مجاملة .. وهذا الأمر يجعلني في الأيام أقضي معظم وقتي خارج السفارة فدعونا له بالتوفيق .. وودعناه وخرجنا وبعد هذه المقابلة ذهبت أنا والأستاذ الرويس نهيم على وجوهنا في شوارع لندن الواسعة النظيفة .. والغريب أنني لم أر جنديا واحدا يقف عند تلك الاشارات الضوئية في تقاطع الشوارع بل ان الناس .. كل الناس يحترمون تلك الإشارات.. ولا يخالفونها في سماحها لقوم بالسير .. ومنعها أخرين منه ..
كما أنني لم أسمع منبها واحدا يستعمل على كثرة السيارات .. فكأنما سياراتهم ليس فيها منبهات .