صحيفة الرياض-ثقافة اليوم - محمد المرزوقي
الجهيمان.. عصامية السيرة
ولد عبدالكريم بن عبدالعزيز بن صالح الجهيمان لأبوين كانا من قريتين متجاورتين (غسلة) و (الوقف) على مقربة من بلدة شقراء التي تعد إحدى بلدات إقليم الوشم، إذ كانت ولادته عام 1333ه، حيث عاش الجهيمان عند أخواله فترة الطفولة بعد افتراق والديه وزواج أمه التي عادت للعيش معه بين أخواله بعد وفاة زوجها، حيث اهتمت بتعليمه فأدخلته إلى الكتاب حيث تعلم القراءة والكتابة حيث تعلم فيها لعام إلى جانب ما تعلمه خلال ذلك من القرآن الكريم تلاوة وحفظا.
بعد أن بلغ الحادية عشرة من عمره أخذه والده بصحبته إلى الرياض طلبا للرزق، حيث واصل بعد أن بلغ الثالثة عشرة من عمره التعليم مرة أخرى من خلال حرص والده عليه أن يبقى بمدينة الرياض لينال مزيدا من العلم حيث درس مرة أخرى في الكتاتيب ليتعلم علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وأدبها .. وعددا من العلوم الشريعة التي كانت تدرس آنذاك وفي مقدمتها الفقه والفرائض.
وفي عام 1348ه كان قد افتتح الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، حيث طلب من المفتي آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم أن يختار عددا من الشباب الذين سيذهبون على نفقته الخاصة للدراسة في المعهد، والذين كان من ضمنهم عبدالكريم الجهيمان في أولى رحلة له إلى الحجاز، والذي كان بصحبة عدد من مجايليه الذين كان منهم حمد الجاسر ، عبدالرحمن آل الشيخ، عبدالله عبدالغني خياط وغيرهم، حيث أمضى الجهيمان في المعهد ثلاث سنوات كانت تمثل فترة الدراسة للملتحقين بالمعهد، ليتخرج فيه عام 1351ه .
الجهيمان المثقف.. مربيا ومعلما..
لقد أمضى الجهيمان محطات عدة في مضمار التربية والتعليم، وذلك بعد أن تخرج في المعهد العلمي السعودي من ضمن قلة كان من الذين تخرجوا من طلاب المعهد آنذاك. إلا أن الجهيمان بدأ مسيرة حياته في ميادين التربية والتعليم من خلال ما أعده من مؤلفات مدرسية للطلاب منها ما كان في الفقه ومنها ما كان في التوحيد والتي كانت تمثل أولى بداياته في إعداد المقررات المدرسية.. إلى جانب المهام التعليمية التي بدأت تتوالى تباعا والتي كان منها تكليف الجهيمان باختبار الطلاب اختبارا نهائيا لمن يحق لهم الانتقال من مرحلة دراسية إلى أخرى.. حيث كلف بعد ذلك بالعديد من المهام التعليمية وإدارة العديد من إدارات المدارس في الرياض. ليستمر في مشوار التأليف والإعداد للمقررات الدراسية للطلاب، إلى جانب مهمة التدريس التي لازمت مسيرته التعليمية لسنوات.. ليظل الجهيمان في ذاكرة الأجيال المربي والمعلم الذي استطاع بنبوغه منذ وقت مبكر أن يكون عصاميا في شتى مناحي المعرفة، إذ أعد مقررات دراسية ودرس في زمن عز فيها المعلمون ومعدو مقررات التلاميذ.. فلقد عرفت حياة فقيد المشهد الثقافي الوطني بالعصامية في طلب المعرفة بنفسه، إذ استطاع أن يجول في فنون المعارف الأدبية والثقافية بإرادة مثابر أبى إلا أن يتخذ من المعرفة سلما في طريق رحلة الكلمة طوال حياته التي عاشها بصحبة الكلمة والقلم والمبدأ معلما ومربيا وصحافيا وشاعرا وناقدا ومؤلفا.
الجهيمان صحفيا..
كان للكتابة الصحفية، التي صحبها إيمانه برسالة الصحافة ودورها في حياة الأمم والشعوب رؤية خاصة في حياة الأديب الراحل، إذ دخل الجهيمان إلى معترك العمل الصحفي بصحبة القلم والمبدأ منذ وقت مبكر من حياته إذ ترأس صحيفة أخبار الظهران في الدمام، التي كان لها من خلالها أولى المنطلقات في فضاء الكتابة الصحفية التي كان قلمه صوت يقظة وفكر وأدب بما يدونه من مقالات أدبية واجتماعية حينا.. وبما يدونه من شعره حينا آخر.. هذا إلى جانب ما أسهم به من مقالات ومشاركات عبر الصحف المحلية في مجالات ثقافية واجتماعية شتى، إلى جانب ما كان يدونه عبر الصحافة عن تراثنا المحلي وأدبنا الشعبي.. حيث جاءت كتاباته عبر الصحافة وعبر مؤلفاته السردي منها والشعري زاخرة بحب الوطن والصورة الأدبية المحلقة بالقارئ.
وقد جاء عمله صحفيا بجريدة أخبار الظهران بعد أن توالت أسفار الجهيمان حيث كان سفره إلى المنطقة الشرقية آنذاك – كما يذكر في مذكراته – امتدادا لما عزم عليه من الترحال في سيبل المعرفة، إذ كان يقصد حينها دول الخليج العربية، إلا أن مهنة الصحافة استوقفته دون تخطيط للشروع فيها، إذ كانت بداياته من بوابة العمل في (شركة الخط للطبع والنشر) والتي كان للجهيمان في عضوية إدارتها دور فاعل في الارتقاء بأعمالها التي تطورت إلى الحصول على أمر سام بإصدار جريدة (أخبار الظهران) التي صدر عددها الأول في 26 كانون الأول 1954م، والتي طبعت الأعداد الأولى منها في بيروت، حتى هيأت الشركة مطابع خاصة بها، فأخذت بعد ذلك تصدر من الظهران، والتي تولى الجهيمان رئاسة تحريرها منذ صدور العدد الثامن منها بعد أن انتقل من منصب مدير تحرير الصحيفة ليكون رئيسا لتحريرها خلفا لعبدالله الملحوق الذي انتقل للعمل في سفارة المملكة في بيروت.. حيث كانت تصدر نصف شهرية والتي يقول عنها أبو سهيل:
كانت في بداياتها ضعيفة هزيلة، كأي بذرة توضع في التربة، وكأي عمل ينشأ من جديد، ثم انها كانت أول صحيفة تصدر في المنطقة التي انتقلت مدنها من طور القرى إلى طور المدن، ثم إن أكثر القاطنين فيها هم عمال من شركة أرامكو، مما جعل من المثقفين والمهتمين بالقراءة وأخبار الصحافة آنذاك يمثلون نسبة ضئيلة.. وبدأت الجريدة تنمو وتكبر، ويتسع توزيعها ويكثر قراؤها شيئا فشيئا، لما يلمس القارئ فيها من صراحة القول ، وإخلاص في علاج الكثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية.. وقد ظهر من بين هؤلاء العمال كتاب ومفكرون صاروا يغذون الصحيفة بألوان من البحوث والمقالات المليئة بالوطنية والإخلاص والجرأة في بعض الأحيان.
ويقول الراحل عن فترة ترأسه للصحيفة: لقد كسبت من تحرير الصحيفة مكاسب معنوية كثيرة.. ولقد كانت نقلة جديدة في حياتي الوطنية والفكرية.. فلقد كان يرد إلى الصحيفة مختلف الآراء والاتجاهات التي منها ما يكون متزنا، ومنها ما يكون متهورا مندفعا.. ومنها ما يكون مدسوسا فيه بعض الأفكار التي لا تتناسب مع محيطنا ومجتمعنا المحافظ.. الأمر الذي أكسب الجهيمان بعدا ثقافيا من خلال رئاسة تحرير الصحيفة التي عرفته بمزيد من الطرح المعرفي والفكري إلى جانب ما مكنته من التعامل مع إدارة دفة النشر عبر الصحيفة برؤية مثقف وأديب وناقد برؤية مؤمنة برسالتها الوطنية في مختلف مسارات الكلمة.
ومع تنامي ظهور الصحف فقد أخذ دور الجهيمان الصحفي يتنامى معها بالمشاركة من خلال العديد من الزوايا التي كان يكتبها في تلك الصحف.. مما جعل من عطاء الجهيمان الصحفي مدادا ممتدا في الصحافة المحلية.. ليظل الجهيمان الصحفي يعمل ويكتب بروح الأديب ورؤية المثقف.
عقود في مسيرة الكتابة
ومع مسيرة التأليف كان مجلسه عامرا بالأدباء والمثقفين إذ كانت ثلوثية الجهيمان ملتقى أدبيا يفد إليها الكثير من مثقفي وأدباء وإعلاميي العاصمة، إذ كانت الثقافة وأهلها هي البيئة التي ألفها عبدالكريم الجهيمان منذ صباه معلما ومربيا وصحافيا وكاتبا ومؤلفا.. الأمر الذي جعل من الجهيمان ضيفا مكرما في العديد من المناسبات والمحافل الوطنية تقديرا له على ما قدمه للثقافة وما أبدعه طيلة مسيرة حياته من خلال عطاء معرفي لا ينضب، وإبداع متجدد اتصف معه الجهيمان بشمولية المعرفة وسعة الأفق الثقافي، وقدرته على أن يتخذ من قلمه منبرا في مختلف أصعدة المعرفة التي عمل فيها ليظل عبدالكريم الجهيمان اسما رائدا في فضاء مشهدنا الثقافي.
من يقرأ اليوم فيما تركه من إرث فقيد الثقافة والصحافة عبدالكريم الجهيمان سيجد محطات ثقافية وأدبية وصحافية رصدها بمداد الأديب، ورؤية المفكر، وابداع الصحفي، إذ تناسب جمله عبر صور وأخيلة تفرد بها في أسلوبه السهل الممتع الممتنع.. الأمر الذي يجعل ما ألفه الجهيمان في الأدب الفصيح وفي الأدب الشعبي على حد سواء وجهين لعملة واحدة هي الإبداع وحسن التناول في جمال العرض.. ومن يقرأ في مذكرات الجهيمان التي دونها قبيل قرابة الثلاثة عشر عاما والتي يقول بأنه كان مغامراً في طفولته . فقد تسلق نخلة طويلة يبحث عن صغار الطيور وعندما أراد النزول لم يستطع ولم يكن هناك من يساعده فكاد أن يتعرض للسقوط أكثر من مرة .. وكان موتاً محققاً لو سقط ولكنه استطاع أخيراً من الانخراط إلى جذع النخلة رغم تعرضه للكثير من المصاعب.. وفي قصة أخرى من حياة طفولته يقول بأنه ذهب مرة إلى القصور مكان الزراعة الشتوية والتي تبعد عن القرية حوالي خمسة عشر كيلو متراً فقابله بالاتجاه المعاكس ذئب وكان لا يبعد عن طريقه كثيراً فتظاهر بالشجاعة ورباطة الجأش .. لأنه قد سمع أن الذئب لا يهجم إلا على الجبان الرعديد الذي يظهر عليه الخوف ولهذا تماسك وتظاهر بالشجاعة.. أما ذات يوم فنزل إلى البئر ليصطاد صغار الحمام .. وعندما صاد حمامة أراد الصعود بواسطة (الرشاء) المتدلي من أعلاها فلم يستطع .. فحاول وبلغ به الجهد مداه .. فتعلق في الهواء .. وبقي فترة فقد السيطرة على نفسه فانطلق هاوياً إلى قاع البئر ولكن يداه بقيتا ممسكتين بالرشاء فحفظت توازنه ومنعته من الارتطام بجوانب البئر .. فسقط بالماء ومن حسن حظه انه يعرف العوم فتمسك بالجال .. حتى حضر من الأهالي من ربط زبيلاً في رأس الرشاء فجلس به وأخرجوه . بعد أن تجرح جسمه فوجدوا في صدره انتفاخاً وإذا هي الحمامة التي سبق أن اصطادها قبل سقوطه .. وعالجت والدته الجروح وأعطت ابن عمه الحمامة لأنه هو الذي أبلغهم بسقوطه في البئر .. وهكذا كما يقول خرج من المغامرة الخطيرة بلا فائدة .. وهكذا يسرد الجهيمان مرحلة الطفولة بين متناغمات مع الحياة، يورده للقارئ بأسلوبه الشيق، إذ يجد القارئ في مذكرات الجهيمان عصامية في طلب المعرفة واقتحام مصاعب الحياة، والإخلاص للكلمة صحفيا وشاعرا وأديبا موسوعيا.