الشرق الأوسط- بدر الخريف «إننا معشر الرجال جبناء ومترددون وخائفون، ولن يخرجنا من هذا إلا المرأة، فقد شقت طريقها بقوة وثقة في فترة وجيزة».. هذه الكلمات قالها الراحل عبد الكريم الجهيمان، أحد أبرز الرواد الذين خاضوا قبل ثمانين عاماً معارك شرسة، بين العلم والجهل، والتطلع لرقي المجتمع إلى الأفضل، وكتب مقالات جريئة في عدد من الصحف خلال فترة صحافة الأفراد، وألّف مجموعة من الكتب ذات العناوين الصارخة، وارتبط اسمه بإصداره أول صحيفة في المنطقة الشرقية من بلاده التي تنام على بحيرة من الذهب الأسود. وعرف الجهيمان بانتقاداته للجمود والتخلف، مطالباً بتحقيق التقدم للوصول ببلاده الناشئة إلى مستوى ما سبقها من الدول المتقدمة. وكانت من أبرز مطالبه تعليم المرأة السعودية، الذي كان غائباً في تلك الفترة، وكان الحديث عنه يعد نزولاً في المحرم. وقد تحققت نظرته ومطالبه التي طرحها قبل عقود في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، فنالت المرأة حقوقها، متجاوزة حقها في التعليم الذي كان يطالب به قبل عقود إلى حضورها في كل مناحي الحياة.
الباحث المؤلف كاتب السير محمد عبد الرزاق القشعمي قدّم قراءة طويلة عن الراحل الجهيمان، الذي توفي قبل سبع سنوات، وترك سيرة عطرة في المحطات التي مر بها، كاتباً جريئاً ومؤلفاً لافتاً. ونجح القشعمي في عرض هذه المحطات عن الراحل الجهيمان خلال ملتقى كتاب الشهر الذي تنظمه مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وخصصته لهذا الشهر عن مذكرات وذكريات من حياة الجهيمان، التي كتبها عام 1995، أي قبل وفاته بستة عشر عاماً، وعرج فيها المحاضر على طفولة الراحل، التي لم يحظَ فيها بعطف الوالدين كاملاً، وكذلك ذكرياته في قريتي «غسله» و«الوقف»، التي تسمى متجمعة بالقراين من نواحي الوشم، عند أعمامه وأخواله، وافتراق والده عن والدته، ورعاية جدته له، ودخوله كُتّاب القرية، ومرافقته لوالده في أسفاره وذهابه للصحراء، ثم ذهابه إلى العاصمة لطلب المعيشة وهو في سن العاشرة. وهو يستذكر في هذا الصدد مصافحة الطفل الجهيمان للإمام (الملك) عبد العزيز، بعد أن قضى في ضيافته مع والده أياماً، ومنح الطفل كسوة وبعض المال من الروبيات الهندية، وهي العملة السائدة آنذاك، وعند عودته مع والده إلى القرية، فاخر أطفالها، ومد لهم يده اليمنى قائلاً: «إن هذه اليد قد صافحت الإمام عبد العزيز».
واستعرض القشعمي محطات من حياة الجهيمان، بذهابه إلى الرياض وهو في سن الثالثة عشر لطلب العلم، وسكناه في أحد الأربطة، وتناول الوجبات في المضيف التابع لقصر الملك.
كما تطرق المحاضر إلى رحلة الجهيمان لطلب العلم في الحرم المكي، والتحاقه بالمعهد العلمي السعودي، ليتخرج منه قبل 88 عاماً ليعمل معلماً في المدرسة الفيصلية، وبعدها في مدرسة البعثات والمعهد العلمي السعودي، وعمله قبل ذلك جندياً في الهجانة (سلاح الحدود حالياً) لاحتياجه إلى النفقة للصرف على متطلبات التعليم، كما عرج المحاضر القشعمي الذي عرف الراحل الجهيمان في وقت مبكر للحديث عن كتاباته الجريئة في صحيفتي «اليمامة» و«القصيم»، نهاية فترة صحافة الأفراد، معتبراً أنه كان جريئاً في كتاباته ونقده، وحتى اختيار عناوين مقالاته وكتبه، مثل: أنا مؤمن وكافر، والوزارة التي لا تقرأ، والوزارة التي لا تسمع، والوزارة التي لا تعمل، وزاويته الشهيرة (المعتدل والمايل)، وعناوين كتبه الأولى: دخان ولهب، وأين الطريق؟، وآراء فرد من الشعب. وقد كان لمثل هذه المقالات صدى واسع في المجتمع، مما عرضه للفت النظر، والإيقاف والمنع من الكتابة، مما رفع رصيده لدى المتلقين بسبب طروحاته التي تنم عن وعي ووطنية واستشراف للمستقبل.
كتب الجهيمان في عدد من الصحف والمجلات، منها «صوت الحجاز» و«أم القرى» و«اليمامة» و«القصيم»، وشارك في تأليف بعض المقررات الدراسية في الفقه والحديث والمطالعة والتهذيب، وقررتها مديرية المعارف، وتولى الجهيمان إدارة المطابع ورئاسة تحرير أول جريدة في المنطقة الشرقية (أخبار الظهران).
اتجه الجهيمان للأدب الشعبي، وصار يجمع الأمثال ويشرحها، وضمنها في عدة مجلدات، كما اتجه إلى القصص والأساطير التي تحكي بعض القصص المتنوعة ذات الدلالات، وحقق من خلالها سبقاً وتفرداً.
وأورد المحاضر القشعمي كلمات كتبها الراحل قبل ربع قرن، بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، وفيها رصد مختصر عن رحلته الطويلة، حيث عاش أكثر من قرن: «وقد عشت في صناعة القلم نحو ستين عاماً، وتقلبت بي الأحوال، وبلوت هذه الحياة، وذقت حلوها ومرها، وعاشرت أناساً حمدت عشرتهم، وآخرين بين بين!! وأنا ولله الحمد أعيش الآن وليس لي أعداء ولا منافسين، ولا أطمع في زيادة مالي، فقد أعطاني الله فوق ما أستحق، ولا أطمع في زيادة شهرة أو جاه، فقد اكتفيت بما وصلت إليه، ولن أرى في هذه الحياة أكثر مما رأيت، ولست أحسد أحداً على كثرة ماله أو سعة جاهه، وإنما أغبط الذي حسن تعامله مع الله، وأحسن تعامله مع الخلق، فإذا ذُكر اسمه بين الناس أثنوا عليه وحمدوا سيرته، وإذا لقي ربه لقيه مرضياً عنه».
وأورد القشعمي مواقف تنم عن إنسانية الراحل وكبريائه وحبه لعمل الخير، ناقلاً في هذا الصدد ما قاله الدكتور حمود البدر: «عبد الكريم الجهيمان كان يزوره بالجامعة عندما كان وكيلاً لها، فكان يأتي بحثاً عن أوجه الخير بين الطلاب، حيث كان يتلمس الأشد حاجة ليغطيها، أو يسهم في البحث عمن يفعل ذلك، إن كان المطلوب فوق طاقته (...) وقال: إنه ترك لديه مائتي ألف ريال للصرف منها على الطلاب المحتاجين حتى لا تضطرهم الحاجة إلى قطع الدراسة». كما أشار المحاضر إلى تبرع الجهيمان بنصف مليون ريال لمركز رعاية المسنين، قبل أكثر من عشرين سنة، وقبل أن يتحول اسمه إلى مركز الملك سلمان الاجتماعي، وتبرعه بمليون وخمسمائة ألف ريال لمشروع إنشاء مدرسة بالخرج، سميت باسمه، وافتتحت قبل 14 عاماً.
وأشار القشعمي إلى قصة الأمير الراحل فيصل بن فهد، الرئيس العام لرعاية الشباب، الذي طلب مقابلة الجهيمان، عندما التقاه في أحد المعارض التشكيلية مرحباً به، وذكّره الأمير بما كان يكتب سابقاً عندما كان الأمير طالباً بمعهد الأنجال، وأنه كان من المعجبين بما يطرحه من آراء، فقال إنه سيزوره في منزله تقديراً له، فرد عليه الجهيمان شاكراً، وقال إن أعمالك ومسؤولياتك كثيرة، وأنا رجل كبير السن ولا عمل يشغلني، فأنا الذي يزورك، فتحدد موعد اللقاء بمكتبه بالرئاسة، وهو الذي استغرق أكثر من ساعة. وفي نهاية اللقاء، قدم له مظروفاً يحوي خطاب شكر وشيكاً بثلاثمائة ألف ريال. وبعدها، طلب الجهيمان من أحد أصدقائه إحضار شاحنة لنقل الكتب التي سبق أن ألفها، من أساطير وأمثال وكتب الرحلات والمقالات والأطفال والمذكرات، بما يساوي قيمة المبلغ المذكور، وكتب للأمير يشكره، ويقول إنه سلم لجمعية الثقافة والفنون كتباً بقيمة ما تسلمه منه.